فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (25):

{وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25)}
قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ}. فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} قال العلماء: وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فأدركته قبل أن يخرج. {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} أي من خلفه، قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص.
والاستباق طلب السبق إلى الشيء، ومنه السباق. والقد القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا، قال النابغة:
تقدّ السلوقي المضاعف نسجه ** وتوقد بالصفاح نار الحباحب

والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا.
وقال المفضل بن حرب: قرأت في مصحف {فلما رأى قميصه عط من دبر} أي شق. قال يعقوب: العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح. وحذفت الألف من {اسْتَبَقَا} في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، كما يقال: جاءني عبد الله في التثنية، ومن العرب من يقول: جاءني عبد الله بإثبات الألف بغير همز، يجمع بين ساكنين، لأن الثاني مدغم، والأول حرف مد ولين. ومنهم من يقول: عبد الله بإثبات الألف والهمز، كما تقول في الوقف.
الثانية: في الآية دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة، لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم، وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب. قوله تعالى: {وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ} أي وجدا العزيز عند الباب، وعني بالسيد الزوج، والقبط يسمون الزوج سيدا. يقال: ألفاه وصادفه وأرطة ووالطه ولاطة كله بمعنى واحد، فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت ف {قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} أي زنى. {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ} تقول: يضرب ضربا وجيعا. و{ما جَزاءُ} ابتداء، وخبره {أَنْ يُسْجَنَ}. {أَوْ عَذابٌ} عطف على موضع {أَنْ يُسْجَنَ} لأن المعنى: إلا السجن. ويجوز أو عذابا أليما بمعنى: أو يعذب عذابا أليما، قاله الكسائي.

.تفسير الآيات (26- 29):

{قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)}
قوله تعالى: {قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها}. فيه ثلاث مسائل: الأولى قال العلماء: لما برأت نفسها، ولم تكن صادقة في حبه- لأن من شأن المحب إيثار المحبوب- قال: {هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه. قال نوف الشامي وغيره: كأن يوسف عليه السلام لم يبن عن كشف القضية، فلما بغت به غضب فقال الحق.
الثانية: {شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها} لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها. أي حكم حاكم من أهلها، لأنه حكم منه وليس بشهادة. وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة: الأول- أنه طفل في المهد تكلم، قال السهيلي: وهو الصحيح، للحديث الوارد فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قوله: {لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة} وذكر فيهم شاهد يوسف.
وقال القشيري أبو نصر: قيل فيه: كان صبيا في المهد في الدار وهو ابن خالتها، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «تكلم أربعة وهم صغار» فذكر منهم شاهد يوسف، فهذا قول.
الثاني- أن الشاهد قد القميص، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو مجاز صحيح من جهة اللغة، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات، وذلك كثير في أشعارها وكلامها، ومن أحلاه قول بعضهم: قال الحائط للوتد لم تشقني؟ قال له: سل من يدقني. إلا أن قول الله تعالى بعد {مِنْ أَهْلِها} يبطل أن يكون القميص.
الثالث- أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنسي ولا بجني، قاله مجاهد أيضا، وهذا يرده قول تعالى: {مِنْ أَهْلِها}.
الرابع- أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة، وكان مع زوجها فقال: قد سمعت الاستبدار والجلبة من وراء الباب، وشق القميص، فلا يدري أيكما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة، وإن كان من خلفه فهو صادق، فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف، هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ومجاهد أيضا والسدي. قال السدي: كان ابن عمها، وروي عن ابن عباس، وهو الصحيح في الباب، والله أعلم. وروي عن ابن عباس- رواه عنه إسرائيل عن سماك عن عكرمة- قال: كان رجلا ذا لحية.
وقال سفيان عن جابر عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: كان من خاصة الملك.
وقال عكرمة: لم يكن بصبي، ولكن كان رجلا حكيما.
وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كان رجلا. قال أبو جعفر النحاس: والأشبه بالمعنى- والله أعلم- أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة، ولو كان طفلا لكانت شهادته ليوسف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغني عن أن يأتي بدليل من العادة، لأن كلام الطفل آية معجزة، فكادت أوضح من الاستدلال بالعادة، وليس هذا بمخالف للحديث«تكلم أربعة وهم صغار» منهم صاحب يوسف، يكون المعنى: صغيرا ليس بشيخ، وفي هذا دليل آخر وهو: أن ابن عباس رضي الله عنهما روى الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي. قلت: قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك أنه كان صبيا في المهد، إلا أنه لو كان صبيا تكلم لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى استدلال بالقميص، وكان يكون ذلك خرق عادة، ونوع معجزة، والله أعلم. وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة البروج إن شاء الله.
الثالثة: وإذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات كما ذكرنا، وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع، حتى قال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم لهم في ذلك، فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم.
وقال محمد في متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل: إن ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومات، واصل ذلك هذه الآية، والله أعلم. قوله تعالى: {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} كان في موضع جزم بالشرط، وفية من النحو ما يشكل، لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان، فقال المبرد محمد بن يزيد: هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال.
وقال الزجاج: المعنى إن يكن، أي إن يعلم، والعلم لم يقع، وكذا الكون لأنه يؤدي عن العلم. {قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} فخبر عن {كانَ} بالفعل الماضي، كما قال زهير:
وكان طوى كشحا على مستكنة ** فلا هو أبداها ولم يتقدم

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق {من قبل} بضم القاف والباء واللام، وكذا {دبر} قال الزجاج: يجعلهما غايتين كقبل وبعد، كأنه قال: من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه- وهو مراد- صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له. ويجوز {من قبل} {ومن دبر} بفتح الراء واللام تشبيها بما لا ينصرف، لأنه معرفة ومزال عن بابه.
وروى محبوب عن أبي عمرو {من قبل} و{- من دبر} مخففان مجروران.
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} قيل: قال لها ذلك العزيز عند قولها: {ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} [يوسف: 25].
وقيل: قاله لها الشاهد. والكيد: المكر والحيلة، وقد تقدم في الأنفال. {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} وإنما قال: {عَظِيمٌ} لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن.
وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً} وقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}». قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} القائل هذا هو الشاهد. و{يُوسُفُ} نداء مفرد، أي يا يوسف، فحذف. {أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي لا تذكره لأحد واكتمه. ثم أقبل عليها فقال: وأنت {اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} يقول: استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك. {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} ولم يقل من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث، فغلب المذكر، والمعنى: من الناس الخاطئين، أو من القوم الخاطئين، مثل: {إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ} {وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ}.
وقيل: إن القائل ليوسف أعرض ولها استغفري زوجها الملك، وفية قولان: أحدهما- أنه لم يكن غيورا، فلذلك، كان ساكنا. وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود.
الثاني- أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفي بادرته وعفا عنها.

.تفسير الآيات (30- 32):

{وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)}
قوله تعالى: {وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} ويقال: {نسوة} بضم النون، وهي قراءة الأعمش والمفضل والسلمى، والجمع الكثير نساء. ويجوز: وقالت نسوة، وقال نسوة، مثل قالت الأعراب وقال الأعراب، وذلك أن القصة انتشرت في أهل مصر فتحدث النساء. قيل: امرأة ساقي العزيز، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه.
وقيل: امرأة الحاجب، عن ابن عباس وغيره. {تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ} الفتى في كلام العرب الشاب، والمرأة فتاة. {قَدْ شَغَفَها حُبًّا} قيل: شغفها غلبها.
وقيل: دخل حبه في شغافها، عن مجاهد وغيره.
وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل تحت شغافها.
وقال الحسن: الشغف باطن القلب. السدي وأبو عبيد: شغاف القلب غلافه، وهو جلدة عليه.
وقيل: هو وسط القلب، والمعنى في هذه الأقوال متقارب، والمعنى: وصل حبه إلى شغافها فغلب عليه، قال النابغة:
وقد حال هم دون ذلك داخل ** دخول الشغاف تبتغيه الأصابع

وقد قيل: إن الشغاف داء، وأنشد الأصمعي للراجز:
يتبعها وهي له شغاف

وقرأ أبو جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن {شعفها} بالعين غير معجمة، قال ابن الأعرابي: معناه أحرق حبه قلبها، قال: وعلى الأول العمل. قال الجوهري: وشعفة الحب أحرق قلبه.
وقال أبو زيد: أمرضه. وقد شعف بكذا فهو مشعوف. وقرأ الحسن {قد شعفها} قال: بطنها حبا. قال النحاس: معناه عند أكثر أهل اللغة قد ذهب بها كل مذهب، لأن شعاف الجبال. أعاليها، وقد شغف بذلك شغفا بإسكان الغين إذا أولع به، إلا أن أبا عبيدة أنشد بيت امرئ القيس:
لتقتلني وقد شعفت فؤادها ** كما شعف المهنوءة الرجل الطالي

قال: فشبهت لوعة الحب وجواه بذلك. وروي عن الشعبي أنه قال: الشغف بالغا لمعجمة حب، والشعف بالعين غير المعجمة جنون. قال النحاس: وحكي {قد شغفها} بكسر الغين، ولا يعرف في كلام العرب إلا {شَغَفَها} بفتح الغين، وكذا {شعفها} أي تركها مشعوفة.
وقال سعيد بن أبي عروبة عن الحسن: الشغاف حجاب القلب، والشعاف سويداء القلب، فلو وصل الحب إلى الشعاف لماتت، وقال الحسن: ويقال إن الشغاف الجلدة اللاصقة بالقلب التي لا ترى، وهي الجلدة البيضاء، فلصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالقلب. قوله تعالى: {إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في هذا الفعل.
وقال قتادة: {فَتاها} وهو فتى زوجها، لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذ أمرها فيه.
وقال مقاتل عن أبى عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: إن امرأة العزيز استوهبت زوجها يوسف فوهبه لها، وقال: ما تصنعين به؟ قالت أتخذه ولدا، قال: هو لك، فربته حتى أيفع وفى نفسها منه ما في نفسها، فكانت تنكشف له وتتزين وتدعوه من وجه اللطف فعصمه الله. قوله تعالى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أي بغيبتهن إياها، واحتيالهن في ذمها.
وقيل: إنها أطلعتهن واستأمنتهن فأفشين سرها، فسمي ذلك مكرا. وقوله: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} في الكلام حذف، أي أرسلت إليهن تدعوهن إلى وليمة لتوقعهن فيما وقعت فيه، فقال مجاهد عن ابن عباس: إن امرأة العزيز قالت لزوجها إني أريد أن أتخذ طعاما فأدعو هؤلاء النسوة، فقال لها: افعلي، فاتخذت طعاما، ثم نجدت لهن البيوت، نجدت أي زينت، والنجد ما ينجد به البيت من المتاع أي يزين، والجمع نجود عن أبي عبيد، والتنجيد التزيين، وأرسلت إليهن أن يحضرن طعامها، ولا تتخلف منكن امرأة ممن سميت. قال وهب بن منبه: إنهن كن أربعين امرأة فجئن على كره منهن، وقد قال فيهن أمية بن أبي الصلت:
حتى إذا جئنها قسرا ** ومهدت لهن أنضادا وكبابا

ويروى: أنماطا. قال وهب بن منبه: فجئن وأخذن مجالسهن. {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها. قال ابن جبير: في كل مجلس جام فيه عسل وأترج وسكين حاد. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير {متكا} مخففا غير مهموز، والمتك هو الأترج بلغة القبط، وكذلك فسره مجاهد. روى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: المتكأ مثقلا هو الطعام، والمتك مخففا هو الأترج، وقال الشاعر:
نشرب الإثم بالصواع جهارا ** وترى المتك بيننا مستعارا

وقد تقول أزد شنوءة: الأترجة المتكة، قال الجوهري: المتك ما تبقيه الخاتنة. واصل المتك الزماورد. والمتكاء من النساء التي لم تخفض. قال الفراء: حدثني شيخ من ثقات أهل البصرة أن المتك مخففا الزماورد.
وقال بعضهم: إنه الأترج، حكاه الأخفش. ابن زيد: أترجا وعسلا يؤكل به، قال الشاعر:
فظلنا بنعمة واتكأنا ** وشربنا الحلال من قلله

أي أكلنا. النحاس: قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ} من العتاد، وهو كل ما جعلته عدة لشيء. {مُتَّكَأً} أصح ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مجلسا، وأما قول جماعة من أهل التفسير إنه الطعام فيجوز على تقدير: طعام متكأ، مثل: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}، ودل على هذا الحذف {وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} لأن حضور النساء معهن سكاكين إنما هو لطعام يقطع بالسكاكين، كذا قال في كتاب إعراب القرآن له.
وقال في كتاب معاني القرآن له: وروى معمر عن قتادة قال: المتكأ الطعام.
وقيل: المتكأ كل ما أتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث، وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، إلا أن الروايات قد صحت بذلك. وحكى القتبي أنه يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا، والأصل في مُتَّكَأً موتكأ، ومثله متزن ومتعد، لأنه من وزنت ووعدت وكات، ويقال: اتكأ يتكئ اتكاء. {كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} مفعولان، وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكر ويؤنث، وأنشد الفراء:
فعيث في السنام غداة قر ** بسكين موثقة النصاب

الجوهري: والغالب عليه التذكير، وقال:
يرى ناصحا فيما بدا فإذا خلا ** فذلك سكين على الحلق حاذق

الأصمعي: لا يعرف في السكين إلا التذكير. قوله تعالى: {وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} بضم التاء لالتقاء الساكنين، لأن الكسرة تثقل إذا كان بعدها ضمة، وكسرت التاء على الأصل. قيل: إنها قالت لهن: لا تقطعن ولا تأكلن حتى أعلمكن، ثم قالت لخادمها: إذا قلت لك ادع لي إيلا فادع يوسف، وائل: صنم كانوا يعبدونه، وكان يوسف عليه السلام يعمل في الطين، وقد شد مئزره، وحسر عن ذراعيه، فقالت للخادم: ادع لي إيلا، أي ادع لي الرب، وائل بالعبرانية الرب، قال: فتعجب النسوة وقلن: كيف يجئ؟! فصعدت الخادم فدعت يوسف، فلما انحدر قالت لهن: أقطعن ما معكن. {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} بالمدى حتى بلغت السكاكين إلى العظم، قاله وهب بن منبه. سعيد بن جبير: لم يخرج عليهن حتى زينته، فخرج عليهن فجأة فدهشن فيه، وتحيرن لحسن وجهه وزينته وما عليه، فجعلن يقطعن أيديهن، ويحسبن أنهن يقطعن الأترج، واختلف في معنى {أَكْبَرْنَهُ} فروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أعظمنه وهبنه، وعنه أيضا أمنين وأمذين من الدهش، وقال الشاعر:
إذا ما رأين الفحل من فوق قارة ** صهلن وأكبرن المني المدفقا

وقال ابن سمعان عن عدة من أصحابه: إنهم قالوا أمذين عشقا، وهب بن منبه: عشقنه حتى مات منهن عشر في ذلك المجلس دهشا وحيرة ووجدا بيوسف.
وقيل: معناه حضن من الدهش، قاله قتادة ومقاتل والسدي، قال الشاعر:
نأتي النساء على أطهارهن ** ولا نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا: ليس ذلك في كلام العرب، ولكنه يجوز أن يكن حضن من شدة إعظامهن له، وقد تفزع المرأة فتسقط ولدها أو تحيض. قال الزجاج يقال أكبرنه، ولا يقال حضنه، فليس الإكبار بمعنى الحيض، وأجاب الأزهري فقال: يجوز أكبرت بمعنى حاضت، لأن المرأة إذا حاضت في الابتداء خرجت من حيز الصغر إلى الكبر، قال: والهاء في {أَكْبَرْنَهُ} يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية، وهذا مزيف، لأن هاء الوقف تسقط في الوصل، وأمثل منه قول ابن الأنباري: إن الهاء كناية عن مصدر الفعل، أي أكبرن إكبارا، بمعنى حضن حيضا. وعلى قول ابن عباس الأول تعود الهاء إلى يوسف، أي أعظمن يوسف وأجللنه. قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} قال مجاهد: قطعنها حتى ألقينها.
وقيل: خدشنها.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: حزا بالسكين، قال النحاس: يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده.
وقال عكرمة: {أَيْدِيَهُنَّ} أكمامهن، وفية بعد.
وقيل: أناملهن، أي ما وجدن ألما في القطع والجرح، أي لشغل قلوبهن بيوسف، والتقطيع يشير إلى الكثرة، فيمكن أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في مواضع، ويمكن أن يرجع إلى عددهن.
قوله تعالى: {وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ} أي معاذ الله.
وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء. {وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ} بإثبات الألف وهو الأصل، ومن حذفها جعل اللام في {لِلَّهِ} عوضا منها. وفيها أربع لغات، يقال: حاشاك وحاشا لك وحاش لك وحشا لك. ويقال: حاشا زيد وحاشا زيدا، قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: النصب أولى، لأنه قد صح أنها فعل لقولهم حاش لزيد، والحرف لا يحذف منه، وقد قال، النابغة:
ولا أحاشي من الأقوام من أحد

وقال بعضهم: حاش حرف، وأحاشى فعل. ويدل على كون حاشا فعلا وقوع حرف الجر بعدها. وحكى أبو زيد عن أعرابي: اللهم اغفر لي ولمن يسمع، حاشا الشيطان وأبا الأصبغ، فنصب بها. وقرأ الحسن {وقلن حاش لله} بإسكان الشين، وعنه أيضا {حاش الإله}. ابن مسعود وأبي: {حاش الله} بغير لام، ومنه قول الشاعر:
حاشا أبي ثوبان إن به ** ضنا عن الملحاة والشتم

قال الزجاج: واصل الكلمة من الحاشية، والحشا بمعنى الناحية، تقول: كنت في حشا فلان أي في ناحيته، فقولك: حاشا لزيد أي تنحى زيد من هذا وتباعد عنه، والاستثناء إخراج وتنحية عن جملة المذكورين.
وقال أبو علي: هو فاعل من المحاشاة، أي حاشا يوسف وصار في حاشية وناحية مما قرف به، أو من أن يكون بشرا، فحاشا وحاش في الاستثناء حرف جر عند سيبويه، وعلى ما قال المبرد وأبو علي فعل. قوله تعالى: {ما هذا بَشَراً} قال الخليل وسيبويه: {فَلَمَّا} بمنزلة ليس، تقول: ليس زيد قائما، و{ما هذا بَشَراً} و{ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ} [المجادلة: 2].
وقال الكوفيون: لما حذفت الباء نصبت، وشرح هذا- فيما قاله أحمد بن يحيى،- إنك إذا قلت: ما زيد بمنطلق، فموضع الباء موضع نصب، وهكذا سائر حروف الخفض، فلما حذفت الباء نصبت لتدل على محلها، قال: وهذا قول الفراء، قال: ولم تعمل {فَلَمَّا} شيئا، فألزمهم البصريون أن يقولوا: زيد القمر، لأن المعنى كالقمر! فرد أحمد بن يحيى بأن قال: الباء أدخل في حروف الخفض من الكاف، لأن الكاف تكون اسما. قال النحاس: لا يصح إلا قول البصريين، وهذا القول يتناقض، لأن الفراء أجاز نصا ما بمنطلق زيد، وأنشد:
أما والله أن لو كنت حرا ** وما بالحر أنت ولا العتيق

ومنع نصا النصب، ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز: ما فيك براغب زيد، وما إليك بقاصد عمرو، ثم يحذفون الباء ويرفعون. وحكى البصريون والكوفيون ما زيد منطلق بالرفع، وحكى البصريون أنها لغة تميم، وأنشدوا:
أتيما تجعلون إلي ندا ** وما تيم لذي حسب نديد

الند والنديد والنديدة المثل والنظير. وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد. وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين: قال أبو إسحاق: وهذا غلط، كتاب الله عز وجل ولغة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوى وأولى. قلت: وفي مصحف حفصة رضي الله عنها {ما هذا ببشر} ذكره الغزنوي. قال القشيري أبو نصر: وذكرت النسوة أن صورة يوسف أحسن، من صورة البشر، بل هو في صورة ملك، وقال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] والجمع بين الآيتين أن قولهن: {حاشَ لِلَّهِ} تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز من المراودة، أي بعد يوسف عن هذا، وقولهن: {لِلَّهِ} أي لخوفه، أي براءة لله من هذا، أي قد نجا يوسف من ذلك، فليس هذا من الصورة في شي، والمعنى: أنه في التبرئة عن المعاصي كالملائكة، فعلى هذا لا تناقض.
وقيل: المراد تنزيهه عن مشابهة البشر في الصورة، لفرط جماله. وقوله: {لِلَّهِ} تأكيد لهذا المعنى، فعلى هذا المعنى قالت النسوة ذلك ظنا منهن أن صورة الملك أحسن، وما بلغهن قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] فإنه من كتابنا. وقد ظن بعض الضعفة أن هذا القول لو كان ظنا باطلا منهن لوجب على الله أن يرد عليهن، ويبين كذبهن، وهذا باطل، إذ لا وجوب على الله تعالى، وليس كل ما يخبر به الله سبحانه من كفر الكافرين وكذب الكاذبين يجب عليه أن يقرن به الرد عليه، وأيضا أهل العرف قد يقولون في القبيح كأنه شيطان، وفي الحسن كأنه ملك، أي لم ير مثله، لأن الناس لا يرون الملائكة، فهو بناء على ظن في أن صورة الملك أحسن، أو على الإخبار بطهارة أخلاقه وبعده عن التهم. {إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ} أي ما هذا إلا ملك، وقال الشاعر:
فلست لإنسي ولكن لملأك ** تنزل من جو السماء يصوب

وروي عن الحسن: {ما هذا بشرى} بكسر الباء والشين، أي ما هذا عبدا مشترى، أي ما ينبغي لمثل هذا أن يباع، فوضع المصدر موضع اسم المفعول، كما قال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] أي مصيده، وشبهه كثير. ويجوز أن يكون المعنى: ما هذا بثمن، أي مثله لا يثمن ولا يقوم، فيراد بالشراء على هذا الثمن المشترى به: كقولك: ما هذا بألف إذا نفيت قول القائل: هذا بألف. فالباء على هذا متعلقة بمحذوف هو الخبر، كأنه قال: ما هذا مقدرا بشراء. وقراءة العامة أشبه، لأن بعده {إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيما لشأنه، ولأن مثل {بشرى} يكتب في المصحف بالياء. قوله تعالى: {قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} لما رأت افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها: {لُمْتُنَّنِي فِيهِ} أي بحبه، و{ذلك} بمعنى {هذا} وهو اختيار الطبري.
وقيل: الهاء للحب، و{ذلك} عل بابه، والمعنى: ذلكن الحب الذي لمتنني فيه، أي حب هذا هو ذلك الحب. واللوم الوصف بالقبيح. ثم أقرت وقالت: {وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي أمتنع، وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية.
وقيل: {استعصم} أي استعصى، والمعنى واحد. {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ} عاودته المراودة بمحضر منهن، وهتكت جلباب الحياء، ووعدت بالسجن إن لم يفعل، وإنما فعلت هذا حين لم تخش لوما ولا مقالا خلاف أول أمرها إذ كان ذلك بينه وبينها. {وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} أي الأذلاء. وخط المصحف {وَلَيَكُوناً} بالألف وتقرأ بنون مخففة للتأكيد، ونون التأكيد تثقل وتخفف والوقف على قوله: {لَيُسْجَنَنَّ} بالنون لأنها مثقلة، وعلى {لَيَكُوناً} بالألف لأنها مخففة، وهي تشبه نون الإعراب في قولك: رأيت رجلا وزيدا وعمرا، ومثله قوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} ونحوها الوقف عليها بالألف، كقول الأعشى:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا أي أراد فاعبدا، فلما وقف عليه كان الوقف بالألف.